سورة الروم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


قلت: اجتمع القسم والشرط، فذكر جواب القسم وأغنى عن جواب الشرط.
والضمير في (رأوه): يعود على النبات المفهوم مما تقدم من أحياء الأرض، أو: على السحاب.
يقول الحق جل جلاله: {و} الله {لئن أرسلنا ريحاً} عاصفة على ما نبت في الأرض من الزروع وسائر الأشجار، الذي هو أثر رحمة الله، {فَرَأَوْه} أي: ما نبت في الأرض، {مُصْفَرّاً} يابساً {لظلُّوا} أي: ليظلون {من بعده} أي من بعد اصفراره {يكفرون}، ويقولون: ما رأينا خيراً قط، فينسون النعم السابقة بالنقم اللاحقة. وهذه صفة أهل الغفلة، وأما أهل اليقظة؛ فيشكرون في أوقات النعم، ويصبرون ويرضون في أوقات النقم، وينتظرون الفرح بعد الشدة، واليسر بعد العسر، غير قَانِطِينَ ولا ضَجِرين. أو: ولئن أرسلنا ريحاً؛ لتعذيبهم، فرأوا سحابة صفراء، لأنَّ اصفراره علامة على أنه لا مطر فيه، لظلوا، أي: للجوا من بعد ذلك على كفرهم وطغيانهم، لانهماكهم.
قال البيضاوي: وهذه الآية ناعية على الكفار، لقلة تثبيتهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم، لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله، ويلتجئوا إليه؛ بالاستغفار، إذا احتبس القطر عنهم، ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر واستدامة الطاعة، إذا أصابهم برحمته ولم يبطروا بالاستبشار، وأن يصبروا على بلائه؛ إذا ضرب زروعهم بالاصفرار، ولم يكفروا نعمه. اهـ.
قال النسفي: ذمهم الله تعالى بأنهم، إذا حبس عنهم المطر، قنطوا من رحمته، وضربوا أذقانهم على صدورهم، مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، استبشروا، فإذا أرسل الله ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجّوا، وكفروا بنعمه، وهم في جميع هذه الأحوال على صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله. فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها صفة مذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله، فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها، ففرحوا وبطروا، وأن يصبروا على بلائه، فكفروا. اهـ.
وهذه حال من مات قلبه، قال تعالى: {فإنك لا تُسمع الموتى} أي: موتى القلوب، وهؤلاء في حكم الموتى؛ فلا تطمع أن يقبلوا منك، {ولا تُسمع الصمَّ الدعاءَ} أي: لا تقدر أن تُسْمِعَ من كان كالأصم دعاءك إلى الله، او: لا يقدرون أن يسمعوا منك، {إِذا ولوا مدبرين}، فإن قلت: الأصم لا يسمع؛ مقبلاً أو مدبراً، فما فائدة التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مُقبلاً يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولّى فلا يفهم، ولا يسمع، فيتعذر إسماعه بالكلية. قاله النسفي.
{وما أنت بهادِ العُمي} أي: عُمْي القلوب. وقرأ حمزة: {ومات أنت تهدي العمي}، {عن ضلالتهم} أي: لا تقدر أن تهدي الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه، بالإشارة إليه، {إنْ}؛ ما {تُسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}؛ منقادون لأوامر الله ونواهيه.
الإشارة: من أصول طريقة التصوف: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فالرجوع في السراء: بالحمد والشكر، وفي الضراء: بالرضا والصبر. قال القشيري: {فإنك لا تُسمع الموتى..} إلخ: مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية؛ لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماء الحقائق، فَسَمْعُ الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحُجَّة، وكما لم يُسمع الصمّ الدعاء، فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْيَ عن ضلالتهم. اهـ.


قلت: {الله}: مبتدأ، والموصول: خبره.
يقول الحق جل جلاله: {الله} الذي يستحق ان يعبد وحده هو {الذي خلقكم من ضَعْف} أي: ابتدأكم ضُعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، أو: خلقكم من أصل ضعيف، وهو النطفة؛ كقوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [المرسلات: 20]، {ثم جعل من بعد ضعف قوةً}، يعني: حال الشباب إلى بلوغ الأشد، {ثم جعل من بعد قوةٍ ضَعْفاً وشَيْبَةً}، يعني: حال الشيخوخة والهرم.
وقد ورد في الشيب ما يسلي عن روعة هجومه فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة الإسلام؛ كانت له نوراً يوم القيامة»، ولما رأى إبراهيم عليه السلام الشيب في لحيته قال: يارب، ما هذا؟ قال: هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: «يا داود، إني لأنظر الشيخ الكبير، مساء وصباحاً، فأقول له: عبدي، كَبِرَ سِنُّكَ، ورق جلدك، ووهن عظمك، وحان قدومك عليّ، فاستحي مني، فإني أستحيي أن أُعذب شَيْبَةًً بالنار». ومن المُسْتَمْلَحَات، مما يسلي عن رَوْعِ الشيب، ما أنشد القائل:
لاَ يَرُوعُكِ الشِّيبُ يَا بِنْتَ *** عَبْدِ الله فالشَّيبُ حُلْة وَوَقاَرُ
إِنَّمَا تَحْسُنُ الرِّيَاضُ إِذَا مَ *** ا ضَحِكَتْ في خِلاَلِهَا الأَزْهَارُ
ثم قال تعالى: {يخلق ما يشاء}؛ مِنْ ضعفٍ وقوةٍ، وشباب وشيبة، {وهو العليمُ} بأحوالهم، {القديرُ} على تدبيرهم؛ فيصيرهم إلى ذلك. والترديد في الأحوال أبين دليل على وجود الصانع العليم القدير. وفي الضعف: لغتان؛ الفتح والضم. وهو أقوى سنداً في القراءة، كما روي ابن عمر. قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ضَعف} فأقرأني: {من ضُعْفٍ}.
الإشارة: إذا كُثف الحجاب على الروح، وكثرت همومها، أسرع لها الضعف والهرم، وإذا رقّ حجابها وقلّت همومها؛ قويت ونشطت بعْد هرمها، ولا شك أن توالي الهموم والأحزان يهرم، وتوالي البسط والفرح ينشط، ويرد الشباب من غير إِبَّانِهِ والعارفون: فرحهم بالله دائم، وبسطهم لازم؛ إذ لا تنزل بساحتهم الهموم والأحزان وإنما تنزل بمن فقد الشهود والعيان، كما قال في الحكم.
قال القشيري: {خلقكم من ضعف}، أي: ضعف عن حال الخاصة، ثم جعل من بعد ضعف قوة؛ بالوصول إلى شهود الوجود القديم، ثم من بعد قوة ضعفاً؛ بالرجوع إلى المسكنة أي: في حال البقاء، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين». اهـ.


قلت: {لبثوا}: جواب القسم؛ على المعنى، وإلا لقيل: ما لبثنا.
يقول الحق جل جلاله: {ويوم تقوم الساعةُ}، أي: القيامة. وسميت بذلك؛ لأنها تقوم آخر ساعة من ساعات الدنيا، ولأنها تقوم في ساعة واحدة، وصارت عَلَماً لها بالغلبة، كالنجم للثريا فإذا قامت {يُقسم المجرمون}؛ يحلف الكافرون: {ما لبثوا} في قبورهم، أو: في الدنيا، {غيرَ ساعة}، استقلّوا مدّة لبثهم في القبور، أو: الدنيا، لشدة هول المطلع، أو: لطول مقامهم في أهوالها، أو: ينسون ما لبثوا، أو: يكذبون. {كذلك كانوا يُؤفكون}، أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق والتصديق، أو: عن الحق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه، ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
{وقال الذين أُوثوا العلم والإيمان}، أي: حَصَّلوا العلم بالله والإيمان بالبَعْثِ وهم الملائكة والأنبياء، والمؤمنون: {لقد لبثتمْ في كتاب الله}؛ في علم الله المثبت في اللوح، أو: في حكم الله وقضائه، أو: القرآن، وهو قوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} إلخ، أي: لقد مكثتم مُدَّةَ البرزخ {إلى يوم البعث}، ردّوا عليهم ما قالوه، وحلَّفُوهم عليه، وأطلعوهم على حقيقة الأَمر، ثم وَبَّخُوهُمْ على إنكار البعث بقولهم: {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتم تنكرونه، {ولكنكم كنتم لا تعلمون} في الدنيا أنه حق؛ لتفريطكم في طلب الحق، واتباعه. والفاء جواب شرط مقدر، ينساق إليه الكلام، أي: إن كنتم منكرين للبعث؛ فهذا يومه.
{فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا} كفروا {مَعْذِرَتُهُم}: اعتذارهم، والمعذرة: تأنيثها مجازي، فيجوز التذكير والتأنيث، {ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يقال لهم: أَرْضُوا رَبَّكُمْ بالتوبة، ولا يُدْعَوْنَ إلى استرضائه، يقال: استعتبني فلان فأعْتَبْتُهُ، أي: استرضاني فأرضيته.
الإشارة: كل من قصر في هذه الدار، وصرف أيام عمره في البطالة، يقصر عليه الزمان عند موته، ويرجع عنده كأنه يوم واحد فحينئذٍ يستعتب؛ فلا يُعتب، ويطلب الرجعى؛ فلا يُجاب، فلا تسأل عن حسرته وخسارته، والعياذ بالله، وهذا كله مبين في القرآن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8